
نشرَ (جوردان بيترسون) مقطَعَي فيديو قبل ثلاثةِ أشهرٍ تقريبًا: الأوّلُ بعنوان “رسالة إلى الكنائس النصرانيّة”، والثاني بعنوان “رسالة إلى المسلمين”.
وبغضّ النظر عن توجيهِهِ خطابَهُ في الفيديو الأوّلِ إلى مؤسساتٍ، وفي الثاني إلى جميعِ الأفرادِ -بالرغم مِن مخاطرِ التعميم-، فإنَّ نبرَتَهُ الفوقيّةَ والمتعاليةَ الواضحةَ جدًّا في هذين المقطعَيْن لم تَخْفَ على المشاهدين.
وقد لاحظَ كثيرون أنّ الرسالةَ الموجّهةَ للمسلمين لم تتناول نقاطًا معيّنةً في الإسلام، إنّما كانت تحاولُ تلميعَ المشروعِ الصهيونيِّ ضدَّ المسلمين، مِن خلال الترويجِ لأجندةِ “الاتفاقيّات الإبراهيميّة“.
وقد كان بعضُ الحالمين الساذجين ينتظرون مقطعًا ثالثًا بعنوان “رسالة إلى اليهود”، لكنّ هذا بالطبع محضُ حلمٍ خياليٍّ! فإرسالُ “رسالة إلى اليهود” سيُعَدُّ بلا أدنى شكٍّ معاداةً للساميّة، وسيعودُ بذاكرتنا إلى أكثرِ سنوات أوروبا الحديثة ظلاميّةً.
لكنّ بعضَ المتابعين الفطنين تنبّهوا لسببِ دعمِهِ الجنونيّ للمشروع الصّهيونيّ: ألا وهو انضمامُهُ إلى موقع (The Daily Wire) التابع (لبين شابيرو).–
يمكننا فهمُ المنطقِ وراءَ هذا، المتمثّلِ بالأمن المادّيّ لبيترسون. إذ وفقًا لصحيفة (The Guardian)، ففي عام 2018م قبل أنْ يصلَ عالِم النفس الكنديّ إلى أوجِ نجوميّتِه، كان يجني 80 ألف دولار شهريًا فقط.
ألا يستحقّ شخصٌ بهذه العبقريّة الفذّة أكثر من هذا؟! إذن، ربّما ستقدّم (The Daily Wire) حلًّا لهذه المشكلة…
ولكن، ألن تقيّدَ مثلُ هذه الخطوةِ “حرّيّةَ التّعبير”؟ هذه الحريّة المتناقضة التي تشكّلُ صنمًا لدى الليبراليين العلمانيين، والتي كثيرًا ما اتَّهَمَ (بيترسون) “اليساريّين” بانتهاكِها (ويبدو أنّه لا يتَّهِمُ إلّا اليساريّين).
فالقُربُ مِن (بين شابيرو)، الصهيونيِّ الكارِهِ للعرب، سيحدُّ مِن “حرّيّة تعبير” (بيترسون) ضدّ المشروعِ الصّهيونيِّ الاستعماريِّ الجديدِ، وسيجعلُها غيرَ معقولةٍ.
بل إنّ المسألةَ لم تَعُدْ متعلّقةً بانتقادِ (جوردان بيترسون) للمشروعِ الصّهيونيّ من عدمِهِ أصلًا، فهو فيما يبدو قد تحوّل إلى الطرفِ المعاكسِ تمامًا، وهذا شيءٌ طبيعيٌّ، إذ صار الآن داعمًا للمشروعِ الصّهيونيِّ بكلّ ابتهاج!
وحاليًّا، بعد أن مرّ على وجوده في فلسطين المحتلّة بضعة أسابيع، بدأت تنتشر عدّة مقاطع فيديو له وهو يدنّس المسجد الأقصى بمرافقة المستوطنين الصهاينة، وهو بذلك قد أقرّ أفعالهم.
Canadian clinicial psychologist, academic and media personality Jordan Peterson @jordanbpeterson has joined Jewish settlers in trespassing Masjid al-Aqsa today. pic.twitter.com/cX0ndf6C4P
— Masjid al Aqsa (@firstqiblah) October 11, 2022
وبالطبع فقد ابتهجَ الإعلامُ الصّهيونيّ لرؤيةِ أنّ “أكبرَ مفكّرٍ غربيٍّ” قد انضمّ إلى خططهم الشائنة.
قال عالمُ النفسِ الكنديُّ الشهيرُ (جوردان بيترسون) لحشدٍ مِن ثلاثةِ آلافِ شخص: “نحن نحتاجُ القدس”، وعيناه مغرورقتان بالدموع.
[…]
مصيرُ العالَم رهنٌ بقراراتِ شعبِ إسرائيل، ومصيرُ العالَمِ رهنٌ بقرارِ كلِّ فردٍ منكم، فكونوا نورًا مضيئًا على جبلٍ، حسنًا؟ إنّكم تجذبون الناس إلى هنا بسبب ما أنتم قادرون على فعله، فأَروا العالمَ ما يمكن أنْ تكونَ عليه المدينةُ المقدّسة، لأنّنا نحتاجُها، ولا غنى لنا عنها، والأمرُ عائدٌ إليكم في تحقيق هذا، شكرًا جزيلًا لكم.
أمَّا (بين شابيرو)، المعلّقُ السّياسيُّ الأمريكيُّ المعروف، وصاحبُ الهيئةِ الإعلاميّة (The Daily Wire)، فقد علّق قائلاً إنَّ القدس -التي اختارها الاثنان خصّيصًا لتكون مكان ظهورهما عند وصولهما معًا إلى إسرائيل- هي بنظره: بوصلةٌ أخلاقيّةٌ عالميّةٌ.
[…]
من جانبه، علّق (روتم سيلع)، مديرُ (دار سيلع مائير للنشر)، قائلاً: “السرعةُ الفائقةُ في شراءِ 3000 تذكرةٍ للفعالية جعلَتْنا متفائلين، وأثبتَتْ وجودَ تعطّشٍ شديدٍ لنقاشاتٍ مفتوحةٍ وصريحةٍ في معناها ومحتواها، وأثبتت أنَّنا نعرف كيف نقدّم الشكرَ والتقديرَ للذين يكرّسون حياتَهم للنضال من أجل الحقيقة”.
وكأنَّ تواجُدَ (شابيرو) لم يكن كافيًا، فقد تواجدَ هناك أيضًا شخصٌ ثالثٌ، هو (ديفيد فريدمان)، السفيرُ الأمريكيُّ السابقُ لدى إسرائيل، والأبُ الروحيُّ لمهزلةِ “الاتفاقيّات الإبراهيميّة”. كان (بيترسون) قد استضاف (فريدمان) مؤخرًا في البودكاست الخاص به، لمناقشة قضية “السلام” في الشرق الأوسط .
بعد أن ألقى كلٌّ من (بيترسون) و(شابيرو) كلمتَهُ في المحاضرة، جلسا لإجراء حوارٍ مع السفيرِ الأمريكيِّ السابقِ لدى إسرائيل (ديفيد فريدمان)، الذي ركّز بدورِهِ على الروايات التّاريخيّة والتّوراتيّة التي تذكرُ إسرائيل، وعلى كونِ إسرائيل دولةً قوميّةً لليهود، وتساءل عمّا إذا كانت الولايات المتّحدة “على حافّة الهاوية”.
ويجدر بالذكر أنَّ (فريدمان) يُنسب له الفضلُ في كونِهِ الشخصيّةَ الرئيسةَ وراءَ نقلِ السفارةِ الأمريكيّةِ إلى القدس، واعترافِ أمريكا بسيادةِ إسرائيلَ على هضبةِ الجولان، والمساهمةِ في توقيعِ اتفاقيّاتِ التطبيعِ “الإبراهيميّةِ” بين إسرائيل والدول العربيّة.
كان (فريدمان) مقرّبًا مِن الرئيس الأمريكيّ السابق (دونالد ترامب)، وكان معروفًا برفضِهِ إقامةَ دولةٍ فلسطينيّةٍ في إطار حلِ الدولتين.
أرجو أنْ يساعدَ هذا المقالُ الناسَ على فهمِ مقطعِ (جوردان بيترسون) “رسالة إلى المسلمين” فهمًا أفضل.