
كان الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس العسكري، جناح الحرس الثوري الإسلامي الإيراني المختص بالقتال في حروب غير تقليدية والإشراف على العمليات العسكرية الواقعة خارج أراضي جمهورية الخميني. تم القضاء على سليماني على يد طائرة أمريكية بدون طيار في عهد ترمب منذ ما يقارب الثلاث سنوات، وبالتحديد في الثالث من يناير 2020.
في بداية هذا العام شهدت ذكرى مقتله انتقادات له من جهة وثناءً عليه من جهة أخرى.
من بين الذين أحيَوا ذكراه المحلل الجيوسياسي الإيراني كريم ساجابور، واصفا إياه بأنه كان بمثابة “تشي غيفارا شيعي”، وعلى العموم يَعدّه المُثنون عليه رمزا بارزا لـ”معاداة الإمبريالية الأمريكية”
لكن هل كان سليماني دائما يحارب الإمبريالية الأمريكية؟
وهل الإمبريالية الأمريكية هي الإمبريالية الوحيدة التي تشكّل خطرا على المسلمين؟
لِننظر في حقيقة الأمر.
مواجهة أمريكا واضطهاد المسلمين
عُرِفَ عن سليماني مشاركته في الحرب الإيرانية العراقية بدءً من عام 2003، لكن هذه المشاركة كانت عبر منظمات وميليشيات شيعية معروفة بتعصّبها للشيعة، أي أن مشاركته كانت بمجملها على حساب سنّة العراق.
كتب بيل روغيو، المدوّن في موقع مجلة الحرب الطويلة عام 2015 في معرض تحليله تقريرا لمرصد حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يكشف عن العقوبات الجماعية التي ارتُكِبَت بحق السّنة نتيجة معاداتهم المزعومة للجمهورية الإسلامية:
وقالت هيومن رايتس ووتش: “يبدو أن حرق منازل المدنيين على نطاق واسع من قبل جماعات الميليشيات في المناطق الخاضعة لسيطرتها لم يبد أن له هدفا عسكريا واضحا وأنه كان بمثابة عقاب جماعيٍّ ضد سكان القرى السنية المحلية“.
وشملت الميليشيات التي شاركت في القتال في آمرلي كتائب حزب الله وعصائب الحق وسرايا الخراساني ومنظمة بدر. وترتبط كل من هذه الميليشيات التي تعمل تحت رعاية هيئة الحشد الشعبي ارتباطًا وثيقًا بقاسم سليماني قائد فيلق القدس، جناح العمليات الخارجية للحرس الثوري الإيراني.
وهدّد قادة الميليشيا الشيعية مباشرة عَقِب تحرير مدينة آمرلي بالثأر من السّنة الذين يُعدِون مؤيّدين للدولة الإسلامية السّنية.
“لا مجال لهم للعودة:[the Sunnis] سنُسوِّي بيوتهم بالأرض.” هكذا صرّح قائد كتائب حزب الله في آمرلي المعروف بأبو عبد الله لرويترز في منتصف شهر سبتمبر عام 2014. في التقرير ذاته نُقِل عن المقاتلين الأكراد وصفهم كتائب حزب الله بـ”الدولة الإسلامية الشيعية” مضيفا أن من المتوقع وقوع صدامات بين القوات الكردية والحزب الشيعي.
في الواقع كان القائد الأول لمنظمة بدر المذكورة أعلاه -أبو مهدي المهندس- قد قُتِل مع سليماني في نفس الهجمة التي أمر بها ترمب بطائرة دون طيار.
وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنه بينما لم يقلّل سليماني من حدّة العداوة للسنة بين قواته الشيعية غير النظامية، فقد كان مساعدا على التوسط في اتفاق سلام بين منظمة شيعية متشددة وبين الحكومة العراقية المدعومة من الولايات المتحدة.
اضطهاد السنة في سوريا برعاية الإمبريالية الروسية
رأينا كيف قام سليماني باضطهاد السنة في العراق بينما كان يحارب “الإمبريالية الأمريكية”، لكنه قام كذلك باضطهاد السنة في سوريا، لكن هذه المرة بمساعدة صنف آخر من الإمبريالية؛ امبريالية بنكهة روسية.
خلال صيف العام 2015 كان الديكتاتور البعثي بشار الأسد في ضائقة، فقد كان ينقص قواتَه العسكرية المواردُ البشرية والمادية اللازمة لكي يسلّط على السنة اضطهادا منظما.
خمِّنوا من أخذ على عاتقه الزحف على الأربع تجاه روسيا لاستجداء الدعم؟
الاقتباس التالي مأخوذ من تقريرٍ صدر في تشرين الثاني (نوفمبر) 2021 من إعداد نيكول غراجوسكي وتم تجميعه لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS):
مع تقدم تنظيم الدولة في تدمر في مايو 2015، بدا احتمال سقوط النظام بدمشق وانهيار الدولة منطقيا ووشيك التحقق. أجبرت قبضة النظام الضعيفة على السلطة الأسدَ على الإعلان عن افتقار الجيش السوري إلى الموارد اللازمة لاحتواء تقدم القوات المعارضة، وأنه لذلك سيقتصر على الدفاع عن أكثر المناطق أهمية لديه. وبين الرابع والعشرين والسادس والعشرين من يونيو التقى سليماني سرا بِبوتن وشويغو في موسكو لتنسيق العملية العسكرية في سوريا. وبعد فترة وجيزة من زيارة سليماني إلى موسكو، وقّعت روسيا وسوريا اتفاقية إنشاء قاعدة عسكرية سرية بقاعدة حميميم الجوية في شمال سوريا. في ذلك الوقت، أشارت تقارير إعلامية عدة لزيادة ملحوظة في وجود العتاد العسكري الروسي وكذا عناصرها المسلحة على الأرض في سوريا، الأمر الذي وصفته الخارجية الروسية بـ “تزويد السلطات الرسمية السورية بمعدات عسكرية لمحاربة الإرهابيين.”
كتب موقع بي بي سي، في تقرير خاص بسليماني عام 2015:
“في الجارة سوريا، يُعزَى له التوصّل للاستراتيجية التي مكّنت الرئيس بشار الأسد من قلب موازين القوى في مواجهة القوات المتمرّدة ومن استرجاع السيطرة على مدن وبلدات ذات أهمية.”
وهكذا كان للجمهورية الخمينية التي تعتزّ بكونها “حكمًا إسلاميا” يدٌ في تمكين بشار الأسد من البقاء في السلطة
كما ذكرنا سابقًا، فإن بشار الأسد هو بالطبع بعثي – ومعلوم أن الأيديولوجية البعثية هي التي تتبنى القومية والعلمانية العربية.
ثمّ تأتي خلفية الأسد الدينية – المتمثلة في انتمائه للطائفة النُّصَيريّة العلوية – التي يعتبرها الشيعة الاثناعشرية كُفريّة بالأساس.
كل هذه الأطراف تتعاون مع الامبريالية الروسية (نعم، هي بالتأكيد شكل من أشكال الامبريالية)، مع كون بوتين نفسه له تاريخ طويل في اضطهاد المسلمين.
لا يوجد نفاق أوضح من هذه الاستراتيجية الجيوسياسية.
مساعدة الإمبريالية الأمريكية في أفغانستان
في عام 2013، كتب الصحفي والمراسل الحربي الشهير ديكستر فيلكينز تقريرا عن شخصية سليماني لصحيفة نيويوركر، قال فيه:
خلال فترة الفوضى التي أعقبت هجمات الحادي عشر من سبتمبر، سافر ريان كروكر -المسؤول السامي في وزارة الخارجية آنذاك- سراً إلى جنيف للقاء مجموعة من الدبلوماسيين الإيرانيين. أخبرني كروكر: “كنت أغادر يوم الجمعة ثم أعود يوم الأحد، لذلك لم يعرف أحد في مكان عملي أين كنت”. “بقينا مستيقظين طوال الليل في تلك الاجتماعات.” بدا واضحًا لكروكر أن الإيرانيين كانوا يستجيبون لسليماني الذي كانوا يلقبونه بـ “الحاج قاسم”، وأنهم كانوا حريصين على مساعدة الولايات المتحدة في تدمير عدوهم المشترك -طالبان.
وقد كان لسليماني دور كبير في دعم الولايات المتحدة بكل تأكيد. بارنت روبن -أحد أبرز المحللين الأمريكيين للوضع في أفغانستان- كتب على موقع War on the Rocks:
كان لبداية الانفراج في العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران خلال رئاسة خاتَمي الإصلاحية (ما بين 1997 و2001) دورٌ في تسهيل تغيير توجّه السياسة الإيرانية في أعقاب هجمات سبتمبر، مع أن الولايات المتحدة هي من تغيّرت بحسب وجهة النظر الإيرانية (…) قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الإسلامي الجنرال قاسم سليماني ساعدَ بنفسه جهاز الاستخبارات الأمريكي CIA على إقامة قواعد عسكرية في كلٍّ من بانجشير وباغرام.
هل إيران حقا “تعادي الإمبريالية”؟
رأينا كيف حارب سليماني “الإمبريالية الأمريكية” بينما كان يحارب السنة في العراق
ورأينا كيف وقف بجانب الإمبريالية الروسية ليمكّن الأسد من مواصلة اضطهاد السنة.
كما رأينا أنه ساعد “الإمبريالية الأمريكية” في أفغانستان.
فأيّ شخصيةٍ “معادية للإمبريالية” يكون؟
لم يكن سليماني بالطبع سوى واجهة للسياسات الخارجية للجمهورية الخمينية، لذا يبدو أن السؤال الذي ينبغي طرحه هنا هو:
إلى أي مدى تُعَدُّ إيران “معاديةً للإمبريالية” حقًّا؟
كتبت تريا بارسي (أكاديمية إيرانية -زرادشتية يُعرَف عنها تعاطفها مع النظام الإيراني) عن هذا الموضوع كتابا كاملا بعنوان يشي بالكثير: “التحالف الخائن” تناولت فيه العلاقات الجيدة لإيران مع الولايات المتحدة وكذا إسرائيل، في ظل الحكم العلماني للشاه وحتى الجمهورية الخمينية.
لن نقوم بإعداد مراجعة كاملة للكتاب هنا، لكن سننقل بعض الكلمات القوية لبارسي:
لا يعدو الخطاب الإيراني الحاد ضد إسرائيل كونه ما هو عليه حقيقة -مجرّدَ كلام. وعندما تتغلّب الواقعية على الأيديولوجية، تعلم إيران كيف تمتنع عن ترجمة هذا الخطاب إلى أفعال ملموسة، فقد تقع بذلك في مواجهة لا تريدها مع الدولة اليهودية خلال حربها على العراق. [1]
ولوضع هذا الاقتباس في سياقه المناسب، نضيف أنه جاء في إشارة لتلقّي إيران مساعدات عسكرية غير مباشرة من إسرائيل خلال حربها مع صدام حسين.
تجدر الإشارة كذلك إلى أن سليماني الذي قاتل ضد صدام حسين وقف بجانب بشار الأسد، بالرغم من كون كِلا الرئيسَين منتميَين لحزب البعث.
نستطيع بهذا التوصّل لحقيقة “معاداة الإمبريالية” التي تظهرها إيران أو يدّعيها قاسم سليماني. ليست إلا كلمات فارغة، فإذا تحوّلت إلى أفعال، لم تكن لتتوجّه إلا لأهل السنة.
هوامش للاستزادة
[1] Trita Parsi, Treacherous Alliance: The Secret Dealings of Israel, Iran, and the United States, Yale University Press, 2007, p. 102.