
يبدو أن هناك بعض النزاعات الداخلية الهامة حالياً (هل سمعت أحدهم يقول إنشقاق؟) بين نشطاء الحركات اليسارية (the woke).
أبلغت مجلة ناشونال ريفيو مؤخرًا عن الاشتباكات العنيفة التي حدثت بين المتحولين جنسياً والنسويات:
عرقل نشطاء حقوق المتحولون جنسياً مسيرة احتجاجية في ساحة مدينة نيويورك صباح الاثنين قامت بها النسويات للمطالبة بالحفاظ على المساحات المخصصة للنساء فقط، حيث هدد نشطاء حقوق المتحولون جنسياً النسويات المُتجمهرات واشتبكوا مع الشرطة.
…
خلال المسيرة, قالت متظاهرة نسوية عبر ميكروفون من خلف جدار الشرطة: “الجنس البيولوجي للأنثى ليس هوية جندرية ، فلتستوعب رؤوسكم اللعينة هذه المعلومة”.
…
صرحت كارين ديفيس لمجلة ناشونال ريفيو قائلةً:” إن القول بأن الجنس البيولوجي حقيقي وغير قابل للتغيير أصبح الآن تصريحاً يقتضي عقوبة جنائية. هل تعلمون أن هناك قانونًا منصوصاً في مدينة نيويورك يقضي بتغريمك 250000 دولار إذا إستخدمت ضميراً خاطئاً لا يوافق الهوية الجندرية التي يُعرف بها الشخص نفسه؟ وقد تم تمرير هذا القانون من قبل عمدة نيويورك السابق بيل دي بلازيو (Bill de Blasio)ولم يتم إلغاؤه حتى الآن”. كارين ديفيس امرأة أمريكية من أصل أفريقي انضمت إلى التظاهرة لدعم الدفاع عن المساحات الخاصة بالنساء فقط. لديها قناة يوتيوب أطلقت عليها إسم: أنت تمزح، صحيح؟، وهي تسميها “تمرينًا للصحة العقلية” وسط ” شجارات الجندر” التي نشهدها اليوم.
في عام 2015 ، أصدرت لجنة نيويورك لحقوق الإنسان مجموعة جديدة من القواعد الارشادية بحق أصحاب العمل وأصحاب العقارات، تحظر فيها مخاطبة الشخص بالجنس الخطأ أو إستخدام ضمير خاطئ لا يوافق الهوية الجندرية التي يُعرف بها الشخص نفسه. كما تحظر هذه القواعد منع الأشخاص من استخدام الحمامات وغرف تبديل الملابس وفقاً لهويتهم الجنسية، بالإضافة إلى حظر نظام اللباس الخاص بجنس معين. وتتراوح العقوبات من 125000 دولار أمريكي للانتهاكات العادية إلى 250 ألف دولار أمريكي ” للسلوك المتعمد أو المقصود أو الماكر”.
كان الأمر مسألة وقت فقط قبل أن تنشب هذه الصراعات بين الطرفين. كان أمراً حتمياً لا مفر منه.
والسبب في ذلك هو أن حركة حقوق المتحولين جنسياً تدور حول “السيولة الجندرية” ، بينما لا تزال الحركة النسوية تؤمن “بجوهرية النوع الاجتماعي (الجندر)” بمعنى أن النسوية ترى أن تعريف مصطلح “امرأة” يتم من خلال عوامل ثابتة.
وهذا هو السبب وراء شن العديد من النسويات الراديكاليات حملات ضد حقوق المتحولين جنسيًا في السابق.
حركة حقوق المتحولين جنسياً كمؤامرة ذكورية
هناك فرع كامل من النسويات الراديكاليات يصنِّفن أنفسهن على أنهن “نسويات راديكاليات ساعيات لإقصاء المتحولين جنسياً”.
ترى هذه الحركة باختصار أن حركة حقوق المتحولين جنسياً هي نوع من المؤامرة الذكورية مصممة لضمان استمرار التمييز بين الجنسين لصالح سلطة الذكور.
أصدرت النسوية الشاذة “اللاهوتية” ماري دالي، والتي توفيت في عام 2010 ، كتابًا في عام 1978 بعنوان (الأخلاقيات الفوقية للنسوية الرادكالية)Gyn / Ecology: Metaethics of Radical Feminism ، حيث كتبت ما يلي:
تنتشر ظاهرة فرانكشتاين اليوم في كل مكان وليس فقط في الأساطير الدينية ، ولكن أيضا في التكنولوجيا الفالوقراطية (التي يهيمن عليها الذكور). تلك الرغبة المجنونة في السلطة ، جنون انتهاك الحدود ، هي علامة على مدمني الموتى الذين يشعرون بنقص الروحانية وحب الحياة داخل أنفسهم ، وبالتالي يحاولون القضاء على كل الأرواح، واستبدالها بالجثث. يتخذ هذا الغزو / الإقصاء الممرض أشكالًا متنوعة. تغيير الجنس هو مثال على عملية جراحية للذكور ليتم غزو العالم الأنثوي بالنسخ الشاذة.
لكن قد يعتبر هجوم طالبة الدكتوراه جانيس ريموند (تلميذة ماري دالي) هو الهجوم الأكثر استمرارًا الذي قامت به نسوية ضد حركة حقوق المتحولين جنسياً.
فقد كتبت كتابًا في عام 1979 بعنوان (إمبراطورية المتحولين جنسيا) The Transsexual Empire . كان هذا الكتاب بمثابة تفكيك لحركة حقوق المتحولين جنسياً من منظور نِسوي، ونزع للشرعية عن الخطاب النفسي والطبي المحيط بالموضوع بأكمله ، كما يصور الكتاب أن هذه الحركة ترسخ “القوالب النمطية الجنسية” التي تحاول النسوية القضاء عليها.
(ففي نهاية الأمر، عندما “يشعر” الرجل بأنه امرأة ، أو العكس ، فإنه لا يزال يؤيد الصورة التقليدية لما يكون عليه الرجل أو المرأة – على سبيل المثال كأن يقوم بـ “الحركات الأنثوية” أو “الرجولية”. )
كرّس توماس ساس حياته كلها لمحاربة الطب النفسي السائد والروايات المتعلقة بـ “الأمراض النفسية”. لخص ساس رسالة كتاب جانيس ريموند وأفكاره الرئيسية ضمن مقال نشر في عام 1979 لصحيفة نيويورك تايمزعلى النحو التالي:
من الواضح أنه لا يتم اعتبار كل الرغبات على أنها أمراض في مجتمعنا. تحلل جانيس ريموند بحساسية ومهارة كبيرتين في كتابها (إمبراطورية المتحولين جنسيا) “The Transsexual Empire” السبب وراء الإعتبار الكبير التي تحظى به الرغبة في تغيير الأدوار الجنسية. بحجة أن “الطب وعلم النفس … أصبحا بمثابة أديان علمانية في مجال التحول الجنسي، ” توضح الكاتبة أن هذه” الحالة “أصبحت تعتبر الآن مرضاً لأن التطورات في تكنولوجيا جراحة تحويل الجنس جعلت بعض التغييرات في الأعضاء التناسلية البشرية ممكنة ولأن مثل هذه العمليات تؤكد وترسخ التوقعات والصور النمطية التقليدية للأدوار الجنسية التي يفرضها النظام الأبوي. يبدو ظاهريا أن أطباء “المتحولين جنسيا” (بدءً من علماء النفس إلى أطباء المسالك البولية) يعالجون مرضاً ما لكنهم في الواقع يشاركون في عملية قولبة دينية وسياسية وويساهمون في التحكم بالسلوك “الذكوري” و “الأنثوي”. إن تأليف وعمل الآنسة ريموند على هذه الأطروحة لا تشوبه شائبة. إن كتابها لهو إنجاز مهم.
في الواقع ، إن هذا الموقف النسوي فيما يتعلق بحركة حقوق المتحولين جنسياً كان هو الأساس المُتعارف عليه إلى أن إنبثقت “الموجة الثالثة للنسوية” في التسعينيات، عندما قامت جوديث بتلر بتطبيع “السيولة الجندرية” ضمن الخطاب النسوي.
هنا مثالان على ذلك:
- اتُهمت جيرمين جرير المولودة في أستراليا ، وهي إحدى الشخصيات العامة الرئيسية للـ”الموجة الثانية للنسوية” ، برُهاب المتحولين جنسيا.
- اتخذت جولي بيندل، وهي واحدة من أكثر النسويات الراديكاليات نشاطًا في المملكة المتحدة ، أيضًا موقفًا نشطًا ضد حركة حقوق المتحولين جنسيًا في العديد من الكتب. هذا لأن هدفها هو رؤية نهاية مفهوم الجندر بحد ذاته، في حين يرسخ نشطاء حقوق المتحولين جنسياً مفهوم الجندر بشكل جليّ، حتى لو اعتبروه “سائلاً” أو شخصيًا أو أي شيء آخر من هذا القبيل.
وهكذا يمكننا أن نرى أن الاختلافات والشكاوى الموجودة بين هذين الجبهتين المتقاتلين من حركات اليسار الليبرالي (wokism) لا مفر منها، وهناك احتمال كبير للغاية باندلاع حرب أهلية على أرض اليسار الليبرالي.